مدير النشر
الأحزاب السياسية هي المشكل: وهذه نظرتنا
د. المريزق المصطفى
من دون لف أو دوران، ومن دون الحديث عن أناس وأماكن وأحداث، ولا حتى إضافة أشياء جديدة، أو أطروحة تسعى إلى تفسير "الواقع" بإحالته على حكم متعالي وذاتي، هي فقط لحظة تحول في مسارنا النضالي، تحتوي على آهات نابعة من قلب تفاصيل غريبة، تحولت إلى قصة طويلة، تحتوي على تفاصيل لن نذكر منها إلا المفيد
بداية لا بد من وضع المسافة بين الرواية والرؤية، وبين الخطاب المفهم والخطاب المتخيل، وبين ادعاء الكمال وعدم الاعتراف بالتكامل، لنصل إلى رفع اللبس عن طبيعة الهيمنة التي باتت تسلطها الأحزاب السياسية على الجماهيرالشعبية، من خلال إعادة إنتاج نفس الأفكار القديمة، ونفس الممارسات الثقافية والتنظيمية والآليات الرمزية البالية، ونفس المفاهيم التقليدية، ونفس الأسلوب المبتذل في التناظر والتموقع في حقل السلطة، وفي حلبة الصراع من دون مشروع مجتمعي أو بدائل
هكذا ومنذ انتخابات 2015 تحولت الأحزاب السياسية المغربية إلى كائنات انتخابية بشكل لم يسبق له مثيل، في زمن العولمة، والتقدم التكنولوجي، والثورة المعلوماتية والرقمية، والاعتراف الكوني بحقوق المواطنة، وفي زمن سقوط الجدران، وتعدد الثقافات، والمقاربات ونسبية الحقيقة
تحولت هذه الأحزاب السياسية إلى نسب مئوية متخصصة في أنواع وأشكال التصويت، وإلى أرقام عددية لتصدر المراتب الأولى، وإلى صراعات حول مناصب الفرق المنتخبة والاستشارية والنيابية، بدل الرؤية السياسية الحزبية والتنظيمية
والكل يعلم أن الناس اليوم لم تعد تثق سوى في نفسها، بدل الثقة في الأحزاب والمؤسسات. وهو ما اعترف به ملك البلاد محمد السادس، وصرح به علانية في أكثر من مناسبة. ورغم ذلك تستمر الأحزاب السياسية متشبثة بزعمائها و بمواقعها، متجاهلة أعطابها التنظيمية، وثغراتها التدبيرية التي باتت تقتل كل يوم روح المبادرة والخلق والإبداع داخل صفوفها، وتقمع كفاءاتها التي أظهرت عن قدراتها الانجابية في محطات متعددة، وتستمر متمادية في حشد المهزومين وتلميع وجوههم، ضدا على الطلائع الحاملة لنفس جديد، نابع من العمق المجتمعي، ومن العمل اليومي الطموح الذي لا يحتاج للتوطئة، ولا للأعيان القدامى منهم و الجدد ( من استفادوا من الريع السياسي، ومن عدم أداء الضرائب، ومن وضع المال خارج الدورة الاقتصادية "لطيزوريزاسيون")، بل للكفاءة والقدرة على الإنجاز، والتخطيط ووضع أحجار الأساس قبل أي بناءومع أزمة إنتاج وصناعة المفاهيم والبرامج الاجتماعية، انشغلت هذه الأحزاب بالصراعات الهامشية، وبحرب المواقع، والتسلق الطبقي، بدل النقد المجتمعي للسلطة، والتعامل بجرأة مع نبض الشارع وهموم الشعب والجماهير الشعبية
هذا الإحساس وهذا الشعور، نريد أن نحوله إلى قوة شعبية، ضد إهانة الأحزاب السياسية للمجتمع، وضد ما تمارسه في حق الأطر والكفاءات والشباب والنساء، وضد أهالينا في المغرب العميق، مغرب الهامش، الذي ينتفض كل يوم ضد المركز وحكومته ونخبه ومؤسساته وأحزابه ومنظماته
إهانات ترمز للهزيمة في حرب باردة بين الأحزاب السياسية والشعب، بدون رصاص ولا قناص، وتشرعن سياسية الموت البطيء بسبب التحكم في وسائل الإعلام والتواصل، وتقتل الأمل المنشود في مغرب المستقبل.إن الوضع الحالي لم يعد يسمح لنا بالصمت، فنحن لم تلدنا أمهاتنا في خرق وأقمطة بيضاء، لم نرث لا رأسمالا رمزيا ولا ماديا ثمينا، ولا نملك سوى فلذات أكبادنا وحب الوطن
في العام 2011، شهد المغرب ميلاد عدة حركات اجتماعية ساخطة على الوضع الاقتصادي، وعلى السياسات التي تتبعها الحكومات، والتي أظهرت بالملموس التخلف الفضيع للأحزاب ومأساوية الفعل السياسي ببلادنا، وخاصة من لدن اليسار النيوليبرالي، الذي حاول الركوب على هذه الحركات مستغلا غضب شبابها، من دون أن يحدد دوره في معركة "شباب بلا مستقبل"، وحماية صرخات الاستغاثة من الظلامية والنكوصية، بدل رفع شعارات ملغومة لتصفية الحسابات مع الأفراد والعائلات
ومنذ ذلك الحين دخلت البلاد في نفق مظلم بسبب السياسات الظالمة التي تتبعها الحكومة، بالإضافة إلى حكرة الأطر والكفاءات والشباب والنساء، وانخفاض الانتماء الحزبي إلى درجة ما قبل الصفر
وبالرجوع إلى جذور الأزمة، يمكن القول أن الأحزاب السياسية أصبحت اليوم جزء من المشكل، وليست جزء من الحل، في غياب المواثيق الاجتماعية والحوار المجتمعي، ومواجهة الاستئثار بالنفوذ والثروة، وعدم قدرتها على مواجهة الخلايا والشبكات المنغلقة، أو البورجوازية اللقيطة المتعجرفة
ومن جهة أخرى، يجب كذلك الإقرار بهيمنة الأقلية على النظام الحزبي المغربي، وهي المسيطرة على دواليب التنظيم طوال عشرات السنين، وأعادت إنتاجها حتى الأحزاب الناشئة، الشبه ليبرالية منها واليسارية النيوليبرالية واليمينية والمحافظة. وظلت هذه الأقلية تسيطر على الأحزاب، وتضع من خالفها خارج بيتها، تحت شعار "أرض الله واسعة
المغاربة لم يعودوا يشعرون بالثقة في القادة السياسيين، بعد اكتشاف فضائهم، ولم يعودوا يشعرون أن هذه الأحزاب تمثلهم، والدليل الملموس هو انخفاض أعداد المنتسبين إليهم والى النقابات العمالية والى الجمعيات بكل اختصاصها
ومما زاد الوضع غموضا وانتكاسة، هو توافق هذه الأحزاب مع السياسات النيوليبرالية الجديدة، وإقامة تحالفات مشبوهة بدون طعم ولا مذاق بين أحزاب تحولت إلى شركات كبرى، وأخرى تستغل الدين، وأخرى تتاجر في تاريخ الايدولوجيا وتضحيات الشهداء والمعتقلين والمناضلين التقدميين..وهو ما سيؤدي إلى فقدان الثقة في النظام الحزبي والقادة السياسيين، والديمقراطية البرلمانية، خاصة مع صعود التطرف والقوى النكوصية والشعبوية و"الريعيون الجدد"، وارتباطات أحزاب سياسية قديمة وتاريخية بأعيان الانتخابات، وتخليها عن ماضيها المشرق في العديد من المحطات
وعلى ضوء هذا الواقع الحزبي المؤلم، يمكن فهم ظاهرة العزوف السياسي في جزء منها، ويمكن فهم لماذا لم تعد الجماهير الشعبية تنخرط في فضاءات العملية السياسية لتتبع الشأن العام عن طريق الأحزاب السياسية، بل عن طريق الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والوقفات الاحتجاجية والمسيرات الشعبية
لقد انسحبت الأحزاب السياسية من الميدان وتركت الريف وزاكورة وجرادة، يواجهون السياسات الاقصائية التي تنهجها الحكومة كاستمرارية للحكومات السابقة، وهذا ما يسائلنا جميعا، ويسائل الرأي العام الذي لم يعد يفهم أي شيء عن دور هذه الأحزاب، وعن استراتيجيات قادتها السياسيين
الناس يبحثون اليوم عن من يمثل الأطر والشباب والنساء، للقطع مع كل الممارسات التي جعلت هذه الفئات الاجتماعية دائما ماسكة للديل، ومحرومة من وسائل الإعلام ومن الهيئات الايديولوجية المركزية التي تشكل البناء الذهني وتشكل القيم المشتركة للناس
والى جانب ذلك، هناك الدين - الأسرة والمدرسة، لكن الأدوات الإعلامية تظل محتكرة في يد النخب المركزية ومؤسساتها الإدارية والسياسية والنقابية، ومن خلالها يتم التعتيم على الحركات الاجتماعية المناهضة للسياسة النيوليبرالية، وللقمع والتفقير والتهميش بكل أشكاله
إن النخبة المسيطرة داخل الأحزاب، أصبحت عائقا حقيقيا أمام التعبيرات الجديدة المناضلة، والمواطنة، والحاملة لرؤى متقاطعة في العديد من القضايا الاجتماعية، التي طلقتها الممارسات الحزبية التقليديةالناس اليوم ينتظرون حلولا لمشاكلهم، ويريدون التعبير على ذلك في نقاش عمومي، وكلما كان الاختلاف حول القضايا، يجب اللجوء إلى التصويت، واستخدام حلقات النقاش في كل تنظيم أو لقاء، بعيدا عن الإقصاء والتنابز
لقد آن الأوان لقول الحقيقة في وجه الأحزاب السياسية، حول ما أصبحت تورثه من مشاكل وخيبات أمل، وتهميش للمواطنات والمواطنين الذين لم يعد أمامهم سوى خلق حلقات النقاش في الفضاءات العمومية والانخراط في مجالس وهيئات الدفاع الذاتي، وتشكيل برلمانيات القرى والمدن والأحياء
الدولة اليوم في ورطة، والناس يخاطبون الملك مباشرة، ويطلبون تدخله الشخصي، ولم نسمع عن حزب أو هيئة سياسية، تقترح نفسها لطرح هذا الموضوع الخطير الذي يمس بوجودها، ومهمتها التي يحددها لها الفصل السابع من دستور المملكة، والقائم على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، والمساهمة في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستوريةفأين نحن من تفعيل الفصل السابع من دستور المملكة؟
لم يعد الناس يؤمنون بالشائعات التي تطلقها الأحزاب في الصالونات والمقاهي والأسواق، أو تلك التي تروج لها النخبة الحاكمة في المؤسسات والإدارات، من خلال خلق لغة التخوين والتشكيك وزرع الرعب والذعر في وسط الطبقة المتوسطة، وجبرها بكل الوسائل على الابتعاد عن السياسة. وفي حالات عديدة، إغراءها بالامتيازات لضرب شجاعتها، ومنعها من أي اقتراب لها من الحركات الاجتماعية
كما أن الناس يريدون لغة بديلة وقوة بديلة لبناء ديمقراطية حقيقية، تخرجهم من الظلمات إلى النور، ويريدون برامج تجعل من الشعب فاعل سياسي، ويريدون تحريرهم من النخبة الفاسدة، وتمكينهم من حرية الاختيار في إطار العدالة الاجتماعية والضريبية والمجالية واللغوية، والمساواة
أخيرا الناس لا يريدون أحزاب سياسية، تشبه العلامة التجارية، ومن يقصدها يعتقد أن كل شيء يمكن أن يباع ويشترى. تريد منهجا إبداعي يربي الناس على المواطنة وعلى الحقوق والواجبات، ويخلص الناس من الخوف والتبعية، ويعطي لكل ذي حق حقه، بعيدا عن منطق الزاوية، والقبلية، والعشيرة والعائلة
د. المريزق المصطفى
كاتب وسياسي
المملكة المغربية